كتاب: الاستخراج لأحكام الخراج

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاستخراج لأحكام الخراج



وفي زاد المسافر قال أبو عبدالله في رواية حنبل مكة إنما كره إجارة بيوتها لأنها عنوة دخلها النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف فكلما كان عنوة كان المسلمون فيه شرعا واحدا وعمر رضي الله عنه إنما ترك السواد لذلك وقال عمر رضي الله عنه لا يمنعوا نازلا بليل أو نهار لأهل مكة لأنه لم يجعل لهم ملكا دون الناس فالحاج فيه سواء العاكف فيه والباد المقيم فيه والقادم والسواد وكل عنوة كذلك انتهى وتمام هذه الرواية ذكرها غير أبي بكر وهو قال ولا يعجبني بيع منازل السواد ولا أرضهم قيل لأبي عبدالله فأراد السلطان أن يفعل ذلك قال كل إمام يقوم بذلك وكان له ذلك إلى السلطان الإمام يصرف كيف شاء إلا الصلح لهم ما صولحوا عليه وهذا غريب جدا أن السواد وكل عنوة لا يؤجر كبيوت مكة ويكون الناس فيه شرعا واحدا والمعروف من مذهب أحمد أن مكة لا تباع دورها ولا تؤجر فمن الأصحاب من بني ذلك على القول بأنها فتحت عنوة كما دل عليه كلام أحمد.
هذا وقال إن قلنا فتحت صلحا فهي ملك لأهلها فتباع وتؤجر ومنهم من قال بل تباع وتؤجر على القولين لأن النبي صلى الله عليه وسلم فتحها عنوة ثم ردها إلى أهلها ولم يقسمها فصارت ملكا لهم وهو اختيار صاحب المغني وقد أنكر أحمد في رواية الميموني قول من قال إن دورهم ليست لهم ومنهم من علل بأنها بقاع المناسك ويحتاج المسلمون كلهم إلى نزولها فيشتركون فيها للحاجة إلى ذلك ثم منهم من يقول هذا على كلا القولين سواء قلنا فتحت عنوة أو صلحا ويجب بذل الفاضل من المساكن عليهم مجانا للواردين كما يجب بذل فضل الأموال في مواضع ومنهم من يقول بل النبي صلى الله عليه وسلم أزال ملكهم عنها بعد الفتح وجعلها مشتركة بين المسلمين وأما إلحاق أراضي العنوة بها في ذلك وأنه لا يمنع منازلها ولا أرضها فهو غريب جدا وإنما يكون ذلك في فاضل المنازل المتسعة للسكنى خاصة كما في بيوت مكة وأولى وإذا منع أهلها من النزول إلا بأجرة فإنه يعطيهم الأجرة وإن لم يجز لهم أخذها كما يعطي الحجام الأجرة وإن لم يطب له أكلها كذلك نص عليه أحمد في دور مكة وكان سفيان يهرب ولا يعطيهم شيئا وأنكر ذلك أحمد من فعله قال القاضي لأنه لما استأجر منهم فقد عقد عقدا مختلفا فيه فيكره مخالفته وظاهر كلام القاضي أنه لا يجب عليه الوفاء لهم بالأجرة وكلام أحمد يدل على خلافه.
المسألة الثانية إجارة أرض العنوة وهي نوعان إجارة الدور للسكنى وإجارة المزارع للاستغلال أما إجارة الدور للسكنى فقد ذكر آنفا رواية حنبل عن أحمد لا يعجبني بيع منازل السواد ولا أرضهم وهذه والله أعلم على طريق الكراهة لا التحريم فإن أحمد كان له ببغداد دور يكريها ويقتات من كرائها إلى أن مات ووصى عند موته أن يقضي دينه من أجرتها إلا أنه كان يتأول في ذلك أنه مضطر إليه وأما إجارة المزارع للازدراع فيجوز قال أحمد في رواية الأثرم وأبي داود ومحمد بن حرب إذا استأجر أرضا من أرض السواد ممن هي في يده فجائز ويكون فيها مثلهم.
وأكثر الأصحاب لم يحكوا في جواز ذلك خلافا لأن أرض الخراج مستأجرة في يد متقبلها بالخراج فيجوز له إجارتها كسائر الأرض المستأجرة من الوقف وغيره وفرق القاضي بين إجارة أرض العنوة وإجارة بيوت مكة كان أرض العنوة ضرب الخراج عليها إجارة لها وقد فعله من فتحها بخلاف بيوت مكة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إجارتها لكن النهي المرفوع عن إجارة بيوت مكة يضعف والصواب وقفه على الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وحكى القاضي وابن عقيل أيضا رواية أخرى بعدم جواز إجارة أرض العنوة مطلقا من غير تفصيل بين المساكن والمزارع وذكر في كتاب الروايتين أنها اختيار أبي بكر وجزم بذلك ابن عقيل في فتوته وإن حكم إجارتها حكم بيعها فلا ترد الإجارة إلا على البنيان دون المزارع مع أن في بيع البنيان خلافا سبق ذكره وعلل القاضي المنع بأنها أرض عنوة فلم تجز إجارتها كرباع مكة وهذه الرواية تؤخذ من روايته السابقة التي سوى أحمد فيها بين بيوت مكة وغيرها وقال لا يعجبني بيع منازل السواد ولا أرضهم فسوى بين المزارع ولكن القاضي إنما أخذها مما رواه إسحاق بن هانئ عن أحمد في الرجل يستأجر أرضا من أرض السواد قال يزارع رجلا أحب إلي من أن يستأجرها قال في كتاب الروايتين فظاهر هذا في رجل استأجر من أرض السواد شيئا ممن هو في يديه هو جاز يكون فيها مثلهم وقال يزارع رجلا أحب إلي من أن يستأجرها فصرح بجواز الإجارة مع استحبابه المزارعة عليها.
قال القاضي في الأحكام السلطانية وإنما اختار المزارعة على الإجارة لأن الإجارة أخذ عوض عن منفعة الأرض وقد منع من أخذ العوض عليها والمزارعة بذل منفعة عن عوض العامل ولذلك اختاره على الإجارة انتهى.
ومتى كانت إجارة أرض الخراج إجارة عين مستأجرة فينبغي أن يتخرج فيها الخلاف المذكور في إجارة عين المتسأجرة وهل يجوز بأزيد من الأجرة مطلقا أم لا يجوز مطلقا لدخوله في ربح ما لم يضمن أو يفرق بين أن يكون قد جدد فيها شيئا أم لا وإذا قلنا يصح استئجارها وهو الصحيح فيكون الخراج باقيا على المؤجر وعلى المستأجر له الأجرة هذا قول أكثر أصحابنا القاضي ومن اتبعه وهو قول شريك والحسن بن صالح وأبي حنيفة وأبي بكر بن عياش وكذا روي عن عمر بن عبد العزيز والزهري في المسلم إذا زرع في أرض الخراج من غير تفصيل بين الإجارة وغيرها ووجه ذلك أن الخراج لازم لمن كانت الأرض في يده على الدوام وهو المتقبل بالخراج ويده باقية على الانتفاع والتمكن منه زرع أو لم يزرع فإذا أجر فقد انتفع بالأرض فاستقر الخراج عليه وقال أبو حفص العكبري من أصحابنا الخراج على المستأجر لأنه المنتفع بالأرض حقيقة وأخذ ذلك من رواية أبي الصفر عن أحمد في الرجل يتقبل الأرض من أرض السواد يتقبلها من السلطان فعلى من يتقبلها أن يؤدي وظيفة عمر رضي الله عنه ويؤدي العشر بعد وظيفة عمر رضي الله عنه وللأصحاب في رواية أبي الصفر تأويلان أحدهما أن أحمد أراد ما أخذ المسلم أرضا من أرض الخراج من السلطان بخراجها وهذا لا إشكال فيه فإن هذا بمنزلة من يقبل الأرض بخراجها من عمر رضي الله عنه عند الفتح وليس هذا بمستأجر ممن عليه الخراج لأن السلطان لا خراج عليه وإنما هو ناظر للمسلمين وعلى هذا حمله القاضي في الأحكام السلطانية وأبو البركات بن تيمية وهو الصحيح والثاني أن المستأجر رضي بالتزام الخراج من جملة الأجرة وكان الخراج معلوما عنده فصار مستأجرا بقدر الخراج المؤجل وبالأجرة المعجلة قاله ابن عقيل وفيه بعد.
وفي مسائل الأثرم سمعت أبا عبدالله يسأل عن الرجل يستأجر أرضا من قصر عبدويه الجريب بكذا وكذا فقال أرض السواد من استأجر منها شيئا ممن هو في يديه فهو جائز يكون فيها مثله قيل له إنها من هذه القطائع من قصر عبدويه فقبض يده وقال أما هذه فلا أدري ما هي ثم قال هذه القطائع يخرجونها من أيدي من شاءوا ويدفعونها إلى من شاءوا وكره الدخول فيها قلت لأبي عبدالله فما كان من أرض السواد في يدي من كانت في يديه فلا بأس أن يستأجرها رجل بأجر معلوم يؤدي الذي في يديه قال نعم لا بأس بهذا.
ونقل محمد بن أبي حرب عن أحمد معنى ذلك وظاهر قوله يكون فيها مثله أي مثل المؤجر فيؤدي خراجها وقد تأوله القاضي في بعض تعاليقه على أنه استأجرها بأجرة معلومة وبقدر خراجها كما تأول ابن عقيل رواية أبي الصفر وفيه بعد ومن المتأخرين من حملها على أنه يقبلها ممن عليه الخراج على التأبيد فيقبل يده عنها بعوض فقام مقامه في تأدية الخراج عنها والانتفاع بها إلى غير غاية وهذا معنى بيع منفعتها كما تقدم وفيه أيضا نظر ويحتمل أن يقال قوله فيها هو مثله أي في جواز الانتفاع والاستغلال لكن هذا يقتضي أيضا عموم الانتفاع ولو كان مستأجرا حقيقة لكان انتفاعه مختصا بما استأجر له وتفريق أحمد بين الاستئجار ممن عليه الخراج وبين الاستئجار من المقطعين لأن المقطع قد تملكها بغير خراج وذلك منهي عنه كما سبق بخلاف المتقبل لها بالخراج فإنها في يده بحق.
فصل:
فلو ساقى على أرض الخراج أو زارع عليها فالخراج عليه لا ينتقل عنه ذكره القاضي في المجرد وهو ظاهر ما نقله صالح بن أحمد عن أبيه وكان ابن سيرين يدفع أرضه الخراجية بالثلث ويؤدي عنها الخراج ولو أعار أرض الخراج فالخراج عليه أيضا ذكره القاضي في الأحكام السلطانية وكذا ذكره يحيى بن آدم في كتابه ويتخرج أن الخراج على المستعير كالمستأجر ولو غصب أرض الخراج فزرعها الغاصب واستغلها فقال أبو البركات بن تيمية قياس المذهب أنه كالمستأجر عليه العشر وفي الخراج روايتان قال وقال محمد بن الحسن إن نقصت الأرض الزراعة دخل بعض الأرض في الخراج فإن كان النقص مثل الخراج أو أكثر فالخراج في ذلك النقص وإن كان أقل فالخراج على الغاصب ويسقط النقص لدخوله فيه وقال أبو يوسف قول أبي حنيفة إن الخراج على الغاصب لأنه لما لزمه غرامة النقص صار كالمستأجر وأما العشر فلا يجب عندهم بحال انتهى.
وقد سبق الحكاية عن أبي حنيفة أن الخراج على المؤجر وهو مخالف ما ذكره هنا فليحقق.
المسألة الثالثة رفع صاحب الخراج يده عنها بالكلية وأصل ذلك أن تقبل الأرض بخراجها عقد لازم من جهة الإمام ما دام المتقبل قادرا على أداء خراجها وعمارتها فإن عجز عن عمارتها رفعت يده عنها وكذا إن امتنع من أداء الخراج.
روى حصين بن عبدالرحمن قال كتب عبدالحميد بن عبدالرحمن إلى عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه إن شاء أهل السواد سألوا أن يوضع عليهم الصدقة ويرفع عنهم الخراج فكتب إليه عمر إني لا أعلم شيئا أثبت لمادة الإسلام من هذه الأرض التي جعلها الله تعالى فيئا لهم فاسألهم فمن كان له في الأرض أهل ومسكن فأجر على كل جدول منها ما يجري على أرض الخراج ومن لم يكن له بها أهل ولا مسكن فارددها إلى البنك من أهلها قال حصين وأصل هذا أنه من كانت في يده أرض فرضي بأن يؤدي عنها الخراج وإلا فليردها فيمن يؤدي عنها الخراج من أهلها خرجه يحيى بن آدم وأبو عبيد واللفظ له وإنما أقر عمر رضي الله عنه من له أهل ومسكن بالخراج لأن أخذ مسكنه منه وإخراج أهله منه فيه عليه ضرر بخلاف إخراج من ليس له أهل ولا مسكن وهو عقد جائز من جهة المتقبل فله أن يخرج من الأرض إذا شاء وقد خير عمر وعلي وغيرهما من الخلفاء رضوان الله عليهم أجمعين من أسلم على أرض خراج إن شاء أقام وإن شاء ترك أرضه للمسلمين.
ولو أراد أحدهم الخروج وله ماء أو غراس في الأرض فهل يقال للإمام أن يتملكه للمسلمين من مال الفيء إذا رآه أصلح كما يتملك الناظر للوقف ما غرس فيها أو بنى بالأجرة بعد انقضاء المدة لا يبعد أن يجوز ذلك بل هي أولى بذلك من ناظر الوقف لوقوع الاختلاف في ملك الموقوف عليهم لرقبة الوقف وأما المسلمون فإنهم يملكون رقبة أرض العنوة وإن وهب للأرض وآثر بها غيره جاز أيضا وقام الثاني مقامه في الانتفاع وأداء الخراج ذكره أصحابنا ومنهم من قال لا يصح هبتها ولذلك نص عليه أحمد معللا بالوقفية ومراده هبة رقبتها لأنها ليست مملوكة له أما رفع يده عنها ونقلها إلى غيره بغير عوض فيجوز ولو وصى بداره من أرض السواد جاز فإن كان فيها بناء يملكه فهو محسوب من الثلث ولا يحسب رقبة الأرض من الثلث.
قال أحمد في رواية بكر بن محمد في رجل له دار يريد أن يوصي بثلث داره فقال أحمد أكره أن تباع الدار من أرض السواد إلا أن يباع البناء فإذا كان للرجل مال وله دار نظر إلى بناء الدار والملك الذي عنده فإذا أوصي بثلث ذلك وكان له دار تساوي عشرة آلاف دينار وبناؤها خمسة آلاف سوى بحسبها على خمسة آلاف ولو وقف داره من أرض السواد قال أحمد في رواية أبي طالب فيمن كانت له دار في الربض أو بقطيعة فأراد أن يخرج منها ويتنزه عنها كيف يصنع قال يوقف قلت لله قال نعم وسألته عن القطائع توقف قال نعم إذا كان للمساكين يرجع إلى الأصل إذا جعلها للمساكين وحمل القاضي هذه الرواية على أحد أمرين إما على أن الوقف كان للبناء المملوك وفيه بعد أو على أن وقفه طابق الوقف الأول لا أنه أنشأ وقفا جديدا وأخذ ابن عقيل من هذا رواية بأن أرض السواد يملكها من هي في يده بالخراج وهذا مخالف لما تواتر عن أحمد فلا يثبت عنه خلاف ذلك بكلام محتمل والأظهر أنه أراد بوقفها وقف بنائها ورفع يده عن رقبتها إلى مستحقها وهم المساكين لأنهم مستحقو الفيء ولكن يقال الفيء لا يختص المساكين باستحقاقه بل هم أحد جهاته فكيف يخصون بما هو مشترك بينهم وبين المسلمين عموما وقد يخرج هذا على قوله بتقديم الفقراء والمساكين منه كما تقدم تقريره وكذلك المروزي عن أحمد فيمن ورث ضياعا وأراد التنزه عنها قال لا يدعها في يد أخوته لكن يشهد أن ميراثه منها وقف قال وأعجب إلي أن يقفها على قرابته فإن لم يكن فجيرانه أو من أحب من أهل المسكنة قوم يعرفهم يقفها لهم ويدعها في أيديهم ثم يخرج فإن كانت هذه الضياع من أرض السواد فهذا نص من أحمد على جواز وقفها على بعض مستحقي الفيء وإن كانت من غير السواد وإنما تنزه عنها لشبهة غصب ونحوه فالأمر واضح لأن المغصوب التي لا يعرف أربابها يتصدق بها واقفها على بعض جهات البر كالصدقة بها ويحتمل أن يقال إن الوقف هنا للمنفعة المملوكة له ملكا مؤبدا مدة حياته وتورث عنه بعد وفاته وإذا كان ذلك فيحتمل أن وقفها يأتي على منفعة للأرض دائما لكونها مالا له موروثا عنه وليس في ذلك إبطال لحق المسلمين لأن حقهم في الخراج وهو باق عليها ويحتمل أن يقال يصح وقفها مدة حياته فقط كوقف أم الولد عند من أجازه من الشافعية ولكن وقف المنافع مما لا يجوز عند الأصحاب.
وقال أحمد في رواية المروزي في رجل وقف غلته على المساكين أو على أم ولده قال الغلة لا توقف أنما توقف الأرض فما أخرج منها فهي عليهم وهذا يدل على الثمرة لا توقف إنما يوقف أصلها ولكن الوقف في منافع الأرض الخراجية ليس واردا على عين ما يخرج من ثمر وزرع بل على منفعة الأرض المملوكة بالخراج التي يستحق بها الزرع والغراس في الأرض وأرض العنوة إنما هي فيء للمسلمين ليست وقفا على معنى الوقف الخاص كما تقدم تقريره.
وذكر القاضي وابن عقيل فيمن وقف ضيعة قال تكون الغلة بعد عمارتها وحق السلطان إلى جهة عينها أنه يصح وهذا يدل على صحة وقف الأرض الخراجية كما ذكرناه فإن منفعتها مملوكة لمن هي في يده بعقد لازم من جهة الأمام وهي تورث عنه ويده ثابتة على رقبتها فهي كأملاكه المحضة.